الاثنين، 31 يوليو 2023

من سورة الأعراف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٥٥_٥٦
من سورة الأعراف 
﴿ٱدۡعُوا۟ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعࣰا وَخُفۡیَةًۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ (٥٥) وَلَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفࣰا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ (٥٦)﴾ [الأعراف ٥٥-٥٦]

أرشد [سبحانه و](١) تعالى عِبَادَهُ إِلَى دُعَائِهِ، الَّذِي هُوَ صَلَاحُهُمْ فِي دنياهم وأخراهم، فقال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [قِيلَ](٢) مَعْنَاهُ: تَذَلُّلًا وَاسْتِكَانَةً، وَ ﴿خُفْيَة﴾ كَمَا قَالَ: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ(٣) ] ﴾ [الْأَعْرَافِ:٢٠٥] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٤) قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أصمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ(٥)(٦) الْحَدِيثَ.وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ قَالَ: السِّرُّ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ﴿تَضَرُّعًا﴾ تَذَلُّلًا وَاسْتِكَانَةً لِطَاعَتِهِ. ﴿وَخُفْيَة﴾ يَقُولُ: بِخُشُوعِ قُلُوبِكُمْ، وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، لَا جِهَارًا وَمُرَاءَاةً.وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فُضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إنْ كانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فقُه(٧) الْفِقْهَ الْكَثِيرَ، وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّر وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ. وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ، فَيَكُونُ عَلَانِيَةً أَبَدًا. وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَمَا يُسمع لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ﴾(٨) وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِي فِعْلَهُ فَقَالَ: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [مَرْيَمَ:٣]وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءُ والصياحُ فِي الدُّعَاءِ، وَيُؤْمَرُ بِالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ.وَقَالَ أَبُو مِجْلِز: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ لَا يُسْأَلُ(٩) مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن زياد ابن مِخْراق، سَمِعْتُ أَبَا نَعَامَةَ(١٠) عَنْ مَوْلًى لِسَعْدٍ؛ أَنَّ سَعْدًا سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا وَنَحْوًا مِنْ هَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا. فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَتَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ". وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ﴾(١١) وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَقُولَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ"(١٢)وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مِخْرَاقٍ، عَنْ أَبِي نَعَامة، عَنِ ابْنٍ لِسَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، فَذَكَرَهُ(١٣) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عفَّان، حَدَّثَنَا حَمَّاد بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَعَامة: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ(١٤) سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "يَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ والطَّهُور".وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود، عن موسى ابن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَعَامة(١٥) -وَاسْمُهُ: قيس ابن عَبَايَةَ الْحَنَفِيُّ الْبَصْرِيُّ -وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾ يَنْهَى تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ! فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مَاشِيَةً عَلَى السَّدَادِ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ. فَنَهَى [اللَّهُ](١٦) تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَدَيْهِ، فَقَالَ: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ أَيْ: خَوْفًا مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ وَبِيلِ الْعِقَابِ، وَطَمَعًا فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ.ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ: إِنَّ رَحْمَتَهُ مُرْصَدة لِلْمُحْسِنِينَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَتْرُكُونَ زَوَاجِرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. [وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ] ﴾(١٧) [الْأَعْرَافِ: ١٥٦، ١٥٧] .وَقَالَ: ﴿قَرِيبٌ﴾ وَلَمْ يَقُلْ: "قَرِيبَةٌ"؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الرَّحْمَةَ مَعْنَى الثَّوَابِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ: قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: تَنَجَّزوا مَوْعُودَ(١٨) اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ قَضَى أَنَّ رَحْمَتَهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من ك، م، د، أ.
(٣) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(٤) زيادة من أ.
(٥) في م، ك،: "سميعا قريبا"، وفي د: "قريبا سميعا".
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٢٠٥) ، وصحيح مسلم برقم (٢٧٠٤)
(٧) في أ: "لفقه".
(٨) زيادة من ك.
(٩) في د: "تسأل".
(١٠) في م، ك، أ: "أبا عباية".
(١١) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(١٢) المسند (١/١٧٢) .
(١٣) سنن أبي داود برقم (١٤٨٠) .
(١٤) في أ: "معقل".
(١٥) المسند (٥/٥٥) ، وسنن ابن ماجة برقم (٣٨٦٤) ، وسنن أبي داود برقم (٩٦) .
(١٦) زيادة من أ.
(١٧) زيادة من ك، م، أ.
(١٨) في أ: "فتنجزوا بوعد".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

ليست هناك تعليقات: