الجمعة، 30 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٧٦
من سورة النساء 
﴿یَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ یُفۡتِیكُمۡ فِی ٱلۡكَلَـٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌا۟ هَلَكَ لَیۡسَ لَهُۥ وَلَدࣱ وَلَهُۥۤ أُخۡتࣱ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ یَرِثُهَاۤ إِن لَّمۡ یَكُن لَّهَا وَلَدࣱۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَیۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوۤا۟ إِخۡوَةࣰ رِّجَالࣰا وَنِسَاۤءࣰ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۗ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّوا۟ۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمُۢ﴾ [النساء ١٧٦]

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ: "بَرَاءَةٌ"، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾(١) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِل، قَالَ: فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيّ -أَوْ قَالَ صُبُّوا عَلَيْهِ -فَعَقَلْتُ فَقُلت: إِنَّهُ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةٌ، فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ؟ قَالَ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ.أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ(٢) ، وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدر، عَنْ جَابِرٍ، بِهِ(٣) . وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾ الْآيَةَ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ -يَعْنِي جَابِرًا -: نَزَلَتْ فِيَّ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾ .وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ : عَنِ الْكَلَالَةِ قُلْ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهَا، فَدَلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَتْرُوكِ.وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْكَلَالَةِ وَاشْتِقَاقِهَا، وَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِكْلِيلِ الَّذِي يُحِيطُ بِالرَّأْسِ مِنْ جَوَانِبِهِ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: بِمَنْ يَمُوتُ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ [أَيْ مَاتَ](٤) ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ .وَقَدْ أُشْكِل حُكْم الْكَلَالَةِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادة، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ مَعْدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا سألتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ، حَتَّى طَعَنَ بأُصْبُعِه فِي صَدْرِي وَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ".هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصَرًا وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا أَكْثَرَ مِنْ هذا(٥) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ [الْإِمَامُ](٦) أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيم، حَدَّثَنَا مالك -يعني ابن مِغْل-سَمِعْتُ الْفَضْلَ بْنَ عَمْرٍو، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ ". فَقَالَ: لَأَنْ أَكُونَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْهَا أحبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يكونَ لِي حُمْر النَّعم. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ عُمَر، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ(٧) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَراءِ بْنِ عازبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عيَّاش، بِهِ(٨) . وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِآيَةِ الصَّيْفِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَلَمَّا أَرْشَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى تَفَهُّمِهَا -فَإِنَّ فِيهَا كِفَايَةً-نَسِيَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ مَعْنَاهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَلَأَنْ أَكُونُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْر النَّعَم.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ(٩) الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: " أَلَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ؟ " فَنَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ](١٠) ﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكر(١١) لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](١٢) قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ(١٣) فِي أَوَّلِ "سُورَةِ النِّسَاءِ" فِي شَأْنِ الْفَرَائِضِ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ. وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا "سُورَةَ النِّسَاءِ" أَنْزَلَهَا فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا "سُورَةَ الْأَنْفَالِ" أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ، بَعْضِهِمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مِمَّا جَرّت الرَّحِمُ مِنَ العَصَبة. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ(١٤) .ذِكْرُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهَا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ:قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ أَيْ: مَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ [الْقَصَصِ: ٨٨] كُلُّ شَيْءٍ يَفْنَى وَلَا يَبْقَى إِلَّا(١٥) اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦، ٢٧] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَالِدِ(١٦) ، بَلْ يَكْفِي فِي وُجُودِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ. وَلَكِنَّ الَّذِي رَجَعَ(١٧) إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَضَاءُ الصِّدِّيقِ: أَنَّهُ مَنْ لَا وَلَدَ له ولا وَالِدَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَبٌ لَمْ تَرِثْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَحْجُبُهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَا وَالِدَ بِالنَّصِّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ لَا يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ مَعَ الْوَالِدِ، بَلْ لَيْسَ لَهَا مِيرَاثٌ بِالْكُلِّيَّةِ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَكْحُول وَعَطِيَّةَ وَحَمْزَةَ وَرَاشِدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ سئلَ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَأَعْطَى الزوجَ النصفَ وَالْأُخْتَ النصفَ. فكُلِّم فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: حضرتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ قَضَى بِذَلِكَ.تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ(١٨) ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ(١٩) وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَيِّتِ تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا: إِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ قَالَ: فَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا فَقَدْ تَرَكَ وَلَدًا(٢٠) ، فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ، وَخَالَفَهُمَا الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ الْآخَرُ بِالتَّعْصِيبِ، بِدَلِيلٍ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذِهِ نَصب(٢١) أَنْ يُفْرَضَ لَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَمَّا وِرَاثَتُهَا بِالتَّعْصِيبِ؛ فَلِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: النِّصْفُ لِلِابْنَةِ، وَالنِّصْفُ لِلْأُخْتِ. ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضَى فِينَا وَلَمْ يَذْكُرْ: عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ(٢٢) ﷺ(٢٣) . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ هُزيل بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلِابْنَةِ(٢٤) النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي. فَسُئِلَ ابنُ مَسْعُودٍ -وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى-فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ، وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسَ، تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ(٢٥) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ أَيْ: وَالْأَخُ يَرِثُ جَمِيعَ مَا لَهَا إِذَا مَاتَتْ كَلَالَةً، وَلَيْسَ لَهَا وَلَدٌ، أَيْ: وَلَا وَالِدَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهَا وَالِدٌ لَمْ يَرِثِ الْأَخُ شَيْئًا، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ مَعَهُ مَنْ لَهُ فَرْضٌ، صُرِفَ إِلَيْهِ فَرْضُهُ؛ كَزَوْجٍ، أَوْ أَخٍ مِنْ أُمٍّ، وَصُرِفَ الْبَاقِي إِلَى الْأَخِ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأوْلَى رجلٍ ذَكَر"(٢٦) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ أَيْ: فَإِنْ كَانَ لِمَنْ يَمُوتُ كَلَالَةً، أُخْتَانِ، فُرِضَ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَكَذَا مَا زَادَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ فِي حُكْمِهِمَا، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَ الْجَمَاعَةُ حُكْمَ الْبِنْتَيْنِ كَمَا اسْتُفِيدَ حُكْمُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْبَنَاتِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ﴾ . هَذَا حُكْمُ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْبَنِينَ وَبَنِي الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ إِذَا اجْتَمَعَ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، أُعْطِيَ الذَّكَرُ مثل حظ الأنثيين.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ﴾ أَيْ: يَفْرِضُ لَكُمْ فَرَائِضَهُ، وَيَحُدُّ لَكُمْ حُدُودَهُ، وَيُوَضِّحُ لَكُمْ شَرَائِعَهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيَانِ. ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أَيْ: هُوَ عَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ لِعِبَادِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَرَابَاتِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنَ الْمُتَوَفَّى.وقد قال أبو جعفر ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنِي ابْنُ عُلَيَّة، أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْن، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا فِي مَسِيرٍ، وَرَأْسُ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ رِدْف رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَرَأْسُ رَاحِلَةِ عُمَرَ عِنْدَ رِدْفِ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ. قَالَ: وَنَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾ فلقَّاها رسولُ اللَّهِ ﷺ حُذَيْفَةَ، فَلَقَّاهَا حُذَيْفَةُ عُمَر، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَ عُمَرُ عَنْهَا حُذَيْفَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأَحْمَقُ إِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لقَّانيها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَقَّيْتُكَهَا كَمَا لَقَّانِيهَا(٢٧) ، وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا. قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٢٨) يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ(٢٩) كُنْتَ بَيَّنْتَهَا لَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُبَين لِي.كَذَا(٣٠) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى(٣١) ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ كَذَلِكَ بِنَحْوِهِ. وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ ابْنِ سِيرِينَ وَحُذَيْفَةَ(٣٢) ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو البزَّار في مسنده: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ المَعْنيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حسَّان، عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ: "نَزَلَتِ الْكَلَالَةُ عَلَى النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ وَإِذَا هُوَ بِحُذَيْفَةَ، وَإِذَا رَأَسُ نَاقَةِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُؤتَزَر النَّبِيِّ ﷺ، فلقَّاها إِيَّاهُ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَقَّاهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ نَظَرَ عُمَرُ فِي الْكَلَالَةِ، فَدَعَا حُذَيْفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَقَدْ لقَّانيها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَقَّيتُك كَمَا لَقَّانِي، وَاللَّهِ(٣٣) إِنِّي لَصَادِقٌ، وَوَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَبَدًا.ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ إِلَّا حُذَيْفَةَ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ طَرِيقًا عَنْ حُذَيْفَةَ إِلَّا هَذَا الطَّرِيقَ، وَلَا رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ إِلَّا عَبْدُ الْأَعْلَى. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَردُوَيه مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى(٣٤) .وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَة: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيباني، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ سَعِيدٍ -[هُوَ](٣٥) ابْنُ المسيَّب-أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَيْفَ يُوَرّث الْكَلَالَةَ؟ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ](٣٦) ﴾ الْآيَةَ(٣٧) ، قَالَ: فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ. فَقَالَ لِحَفْصَةَ: إِذَا رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ طِيبَ نَفْس فَسَلِيهِ عَنْهَا، فَرَأَتْ مِنْهُ طِيبَ نَفْسٍ فَسَأَلَتْهُ عَنْهَا(٣٨) ، فقال: "أبوك ذكر لك هذا؟ ما أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا". قَالَ: وَكَانَ(٣٩) عُمَرُ يَقُولُ: مَا أَرَانِي أَعْلَمُهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا قَالَ.رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه(٤٠) ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ: أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ حَفْصَة أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَأَمْلَاهَا عَلَيْهَا فِي كَتَفٍ، فَقَالَ: "مَنْ أَمَرَكِ بِهَذَا؟ أَعُمَرُ؟ مَا أَرَاهُ يُقِيمُهَا، أَوَمَا تَكْفِيهِ(٤١) آيَةُ الصَّيْفِ؟ " قَالَ سُفْيَانُ: وَآيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ ، فَلَمَّا سَأَلُوا رسولَ اللَّهِ ﷺ نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ خَاتِمَةُ النِّسَاءِ، فَأَلْقَى عُمَرُ الْكَتِفَ. كَذَا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ(٤٢) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرِيْبٍ، حَدَّثَنَا عَثَّام، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِم، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: "أَخَذَ عُمَرُ كَتفًا وَجَمَعَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: لأقضينَّ فِي الْكَلَالَةِ قَضَاءً تُحَدِّثُ بِهِ النِّسَاءُ فِي خُدُورِهِنَّ. فَخَرَجَتْ حِينَئِذٍ حَيّة مِنَ الْبَيْتِ، فَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يُتِمَّ هَذَا الْأَمْرَ لَأَتَمَّهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ(٤٣) .وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الشَّيْبَاني بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا الهيثمُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانَة يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَأَنْ أكون سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ثَلَاثٍ أحبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْر النَّعَم: مَن الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ؟ وَعَنْ قَوْمٍ قَالُوا: نُقرُّ فِي الزَّكَاةِ مِنْ أَمْوَالِنَا وَلَا نُؤَدِّيهَا إِلَيْكَ، أَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ؟ وَعَنِ الْكَلَالَةِ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ(٤٤) . ثُمَّ رُوِيَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ مُرة، عَنْ عُمَرَ قَالَ: ثَلَاثٌ لَأَنَّ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَهُنّ لَنَا أحبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْخِلَافَةُ، وَالْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ(٤٥) .وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: سمعتُ سُلَيْمَانَ الأحولَ يُحَدِّثُ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كنتُ آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: القولُ مَا قلتُ: قلتُ: وَمَا قلتَ؟ قَالَ: قلتُ: الْكَلَالَةُ، مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ طَرِيقِ زَمْعة بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَسُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كنتُ آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: اخْتَلَفْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْكَلَالَةِ، والقولُ مَا قلتُ. قَالَ: وَذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ شَرَكَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَلِلْأُمِّ(٤٦) ، وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ فِي الثُّلُثِ إِذَا اجْتَمَعُوا، وَخَالَفَهُ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنهما(٤٧) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْد الْمَعْمَرِي(٤٨) ، عَنْ مَعْمَر عَنِ الزُّهْرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ فِي الجَدِّ والكلالةِ كِتَابًا، فَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، حَتَّى إِذَا طَعِن دَعَا بِكِتَابٍ فَمُحِيَ، وَلَمْ يدرِ أحدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ. فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ كَتَبْتُ فِي الجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كِتَابًا، وَكُنْتُ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ فِيهِ، فَرَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ(٤٩) .قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ رُوِي عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي أَنْ أُخَالِفَ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ. وَكَأَنَّ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: هُوَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ(٥٠) .وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ، فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ. وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ قَاطِبَةً، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، كَمَا أَرْشَدَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَوَضَّحَهُ(٥١) فِي قَوْلِهِ(٥٢) : ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .

(١) صحيح البخاري برقم (٢٦٠٥) .
(٢) المسند (٣/٢٩٨) وصحيح البخاري برقم (٦٧٤٣) وصحيح مسلم برقم (١٦١٦) .
(٣) صحيح البخاري برقم (٦٧٢٣) وصحيح مسلم برقم (١٦١٦) وسنن أبي داود برقم (٢٨٨٦) وسنن الترمذي برقم (٢٠٩٧) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١١٣٤) وسنن ابن ماجة برقم (١٤٣٦) .
(٤) زيادة من أ.
(٥) المسند (١/٢٦) وصحيح مسلم برقم (١٦١٧) .
(٦) زيادة من أ.
(٧) المسند (١/٣٨) .
(٨) المسند (٤/٢٩٣) وسنن أبي داود برقم (٢٨٨٩) وسنن الترمذي برقم (٣٠٤٢) .
(٩) في أ: "حدثنا".
(١٠) زيادة من أ.
(١١) في د: "وذكر".
(١٢) زيادة من أ.
(١٣) في د: "نزلت".
(١٤) تفسير الطبري (٩/٤٣١) .
(١٥) في ر: "إلا وجه الله".
(١٦) في أ: "الولد".
(١٧) في د: "يرجع".
(١٨) المسند (٥/١٨٨) .
(١٩) تفسير الطبري (٩/٤٤٣) .
(٢٠) في ر: "ولد".
(٢١) في أ: "تعصيب".
(٢٢) في ر: "النبي".
(٢٣) صحيح البخاري برقم (٦٧٣٤) .
(٢٤) في ر، أ: "للبنت".
(٢٥) صحيح البخاري برقم (٦٧٣٦) .
(٢٦) صحيح البخاري برقم (٦٧٣٥) وصحيح مسلم برقم (١٦١٥) .
(٢٧) في أ: "لقاني" وفي د: "لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ".
(٢٨) زيادة من أ.
(٢٩) في ر: "من".
(٣٠) في ر: "وكذا".
(٣١) في أ: "محمد".
(٣٢) تفسير الطبري (٩/٤٣٥) .
(٣٣) في ر: "ووالله".
(٣٤) مسند البزار برقم (٢٢٠٦) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٣) : "رجاله رجال الصحيح غير أبي عبيدة بن حذيفة، ووثقه ابن حبان".
(٣٥) زيادة من ر، أ.
(٣٦) زيادة من ر، أ.
(٣٧) في ر، أ: "إلى آخرها".
(٣٨) في ر: "عنه".
(٣٩) في ر: "فكان".
(٤٠) ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في الدر المنثور (٢/٧٥٣) .
(٤١) في ر: "وما تكفيه".
(٤٢) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (٥٨٧) وعبد الرزاق في المصنف برقم (١٩١٩٤) من طريق سفيان بن عيينة به.
(٤٣) تفسير الطبري (٩/٤٣٩) .
(٤٤) المستدرك (٢/٣٠٣) وتعقبه الذهبي بقوله: "بل ما خرجا لمحمد شيئا ولا أدرك عمر"، فالسند فيه انقطاع.
(٤٥) المستدرك (٢/٣٠٤) ووافقه الذهبي.
(٤٦) في ر: "للأب والأم".
(٤٧) المستدرك (٢/٣٠٣) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (٥٨٩) من حديث سفيان عن سليمان الأحول به.
(٤٨) في ر: "العمري".
(٤٩) تفسير الطبري (٩/٤٣٨) .
(٥٠) رواه سعيد بن منصور في السنن برقم (٥٩١) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (٦/٢٢٤) من طريق سفيان عن عاصم عن الشعبي قال: قال عمر فذكره.. وهو منقطع.
(٥١) في ر: "وصححه".
(٥٢) في ر: "وفي قول".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٧٤_١٧٥
من سورة النساء 
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَكُم بُرۡهَـٰنࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ نُورࣰا مُّبِینࣰا (١٧٤) فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُوا۟ بِهِۦ فَسَیُدۡخِلُهُمۡ فِی رَحۡمَةࣲ مِّنۡهُ وَفَضۡلࣲ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَیۡهِ صِرَ ٰ⁠طࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا (١٧٥)﴾ [النساء ١٧٤-١٧٥]

يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا جَمِيعَ النَّاسِ وَمُخْبِرًا(١) بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْهُ بُرْهَانٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ للعُذْر، وَالْحُجَّةُ الْمُزِيلَةُ لِلشُّبْهَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ أَيْ: ضِيَاءً وَاضِحًا عَلَى الْحَقِّ، قَالَ ابْنُ جُرَيج(٢) وَغَيْرُهُ: وَهُوَ الْقُرْآنُ.﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ مَقَامَيِ الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِالْقُرْآنِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ﴾ أَيْ: يَرْحَمُهُمْ فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَيَزِيدُهُمْ ثَوَابًا وَمُضَاعَفَةً وَرَفْعًا فِي دَرَجَاتِهِمْ، مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أَيْ: طَرِيقًا وَاضِحًا قَصْدا قَوَاما لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ. وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مِنْهَاجِ الِاسْتِقَامَةِ وَطَرِيقِ السَّلَامَةِ فِي جَمِيعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُفْضِي إِلَى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ. وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: " الْقُرْآنُ صراطُ اللهِ المستقيمُ وحبلُ اللَّهِ الْمَتِينُ ". وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي أول التفسير ولله الحمد والمنة.

(١) في ر، أ: "ومخبرا لهم".
(٢) في أ: "جرير".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2022

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٤٠_٤٥ 
من سورة الأنعام 
﴿قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ (٤٠) بَلۡ إِیَّاهُ تَدۡعُونَ فَیَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَیۡهِ إِن شَاۤءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ (٤١) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَىٰۤ أُمَمࣲ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ لَعَلَّهُمۡ یَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوۡلَاۤ إِذۡ جَاۤءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُوا۟ وَلَـٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَبۡوَ ٰ⁠بَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَاۤ أُوتُوۤا۟ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ (٤٥)﴾ [الأنعام ٤٠-٤٥]

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَا مُعقِّب لِحُكْمِهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى صَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ خَلْقِهِ، بَلْ هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ يُجِيبُ لِمَنْ يَشَاءُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾ أَيْ: أَتَاكُمْ هَذَا أَوْ هَذَا(١) ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ: لَا تَدْعُونَ غَيْرَهُ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ ذلك سواه؛ ولهذا قال: إن ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ: فِي اتِّخَاذِكُمْ آلِهَةً مَعَهُ.﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ لَا تَدْعُونَ أَحَدًا سِوَاهُ وَتَذْهَبُ عَنْكُمْ أَصْنَامُكُمْ وَأَنْدَادُكُمْ كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ﴾ الْآيَةَ [الْإِسْرَاءِ: ٦٧] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ﴾ يَعْنِي: الْفَقْرَ وَالضِّيقَ فِي الْعَيْشِ ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ وَهِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَيْ: يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ وَيَخْشَعُونَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ أَيْ: فَهَلَّا إِذِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ تَضَرَّعُوا إِلَيْنَا وَتَمَسْكَنُوا إِلَيْنَا(٢) ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ: مَا رَقَّتْ وَلَا خَشَعَتْ ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي.﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَنَاسَوْهُ وَجَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أَيْ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ مِنْ كُلِّ مَا يَخْتَارُونَ، وَهَذَا(٣) اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ تَعَالَى وَإِمْلَاءٌ لَهُمْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ مَكْرِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾ أَيْ: مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْزَاقِ ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ أَيْ: عَلَى غَفْلَةٍ ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ أَيْ: آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.قَالَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُبْلِسُ: الْآيِسُ.وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَمْكُرُ بِهِ، فَلَا رَأْيَ لَهُ. وَمَنْ قَتَر عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ، فَلَا رَأْيَ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: مَكَرَ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ؛ أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَقَالَ قَتَادَةُ: بَغَت القومَ أمرُ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قَوْمًا قَطُّ إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ(٤) فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا.وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قَالَ: إِرْخَاءُ(٥) الدُّنْيَا وَسَتْرُهَا.وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلان، حَدَّثَنَا رِشْدِين -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمَهْرِيَّ -عَنْ حَرْمَلَة بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبي، عَنْ عُقْبة بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي العبدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعاصيه مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاج". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ حَرْمَلة وَابْنِ لَهِيعة، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، بِهِ(٦)وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عِرَاك بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلة، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٧) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ [تَبَارَكَ وَتَعَالَى](٨) إذا أراد الله بِقَوْمٍ بَقَاءً -أَوْ: نَمَاءً -رَزَقَهُمُ الْقَصْدَ وَالْعَفَافَ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ اقْتِطَاعًا فَتَحَ لَهُمْ -أَوْ فَتْحَ عَلَيْهِمْ -بَابَ خِيَانَةٍ"(٩)﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ كَمَا قَالَ: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

(١) في أ: "وهذا".
(٢) في أ: "لدينا".
(٣) في أ: "وهو".
(٤) في أ: "ونعمتهم".
(٥) في أ: "أرجاء"
(٦) المسند (٤/١٥٤) وتفسير الطبري (١١/٣٦١) ورواه الدولابي (١/١١١) من طريق حجاج بن سليمان، عن حرملة بن عمران به، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر برقم (٣٢) من طريق بشر بن عمر، عن عبد الله بن لهيعة، عن عقبة بن مسلم به.
(٧) زيادة من أ.
(٨) زيادة من أ.
(٩) ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (٣/٢٧٠) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأحد، 25 ديسمبر 2022

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٣_٣٦ 
من سورة الأنعام 
﴿قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَیَحۡزُنُكَ ٱلَّذِی یَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا یُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ یَجۡحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلࣱ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُوا۟ عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا۟ وَأُوذُوا۟ حَتَّىٰۤ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِۚ وَلَقَدۡ جَاۤءَكَ مِن نَّبَإِی۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ (٣٤) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَیۡكَ إِعۡرَاضُهُمۡ فَإِنِ ٱسۡتَطَعۡتَ أَن تَبۡتَغِیَ نَفَقࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ سُلَّمࣰا فِی ٱلسَّمَاۤءِ فَتَأۡتِیَهُم بِـَٔایَةࣲۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ (٣٥) ۞ إِنَّمَا یَسۡتَجِیبُ ٱلَّذِینَ یَسۡمَعُونَۘ وَٱلۡمَوۡتَىٰ یَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَیۡهِ یُرۡجَعُونَ (٣٦)﴾ [الأنعام ٣٣-٣٦]

يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ ﷺ، فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ أَيْ: قَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بِتَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ، وَحُزْنِكَ وَتَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ، ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فَاطِرٍ: ٨] كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٣] ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الْكَهْفِ: ٧]
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أَيْ: لَا يَتَّهِمُونَكَ بِالْكَذِبِ في نَفْسِ الْأَمْرِ ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أَيْ: وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](١) قَالَ قَالَ: أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾(٢)وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ(٣)وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الْوَاسِطِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا بِشْر بْنُ المُبَشِّر الْوَاسِطِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَا أَرَاكَ تُصَافِحُ هَذَا الصَّابِئَ؟ ! فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُ(٤) إِنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟ ! وَتَلَا أَبُو يَزِيدَ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ: يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَيَجْحَدُونَ.وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ جَاءَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ اللَّيْلِ، هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْر بنِ حَرْب، والأخْنَس بْنُ شِريْق، وَلَا يَشْعُرُ واحدٌ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ. فَاسْتَمَعُوهَا إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا هَجَم الصُّبْحُ تَفرَّقوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ: مَا جَاءَ بِكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ مَا جَاءَ لَهُ(٥) ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا، لِمَا يَخَافُونَ مِنْ عِلْمِ شَبَابِ قُرَيْشٍ بِهِمْ، لِئَلَّا يَفْتَتِنُوا(٦) بِمَجِيئِهِمْ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَنًا أَنَّ صَاحِبَيْهِ لَا يَجِيئَانِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُهُودِ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا(٧) جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ جَاؤُوا أَيْضًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا [ثُمَّ تَفَرَّقُوا](٨)فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيق أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي(٩) يَا أَبَا حَنْظَلة عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سمعتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُراد بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا. قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ.ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ تَنَازَعْنَا(١٠) نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ: أَطْعَمُوا فأطعمنا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجاثينا عَلَى الرُّكَب، وَكُنَّا كَفَرَسي رِهَان، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ! فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ(١١)وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّي، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيق لِبَنِي زُهْرَةَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ كَفَّ(١٢) عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ تُقَاتِلُوهُ الْيَوْمَ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنْتُمْ أَحَقَّ مَنْ كَفَّ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ قِفُوا هَاهُنَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْحَكَمِ، فَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ رَجَعْتُمْ سَالِمِينَ، وَإِنْ غَلَب مُحَمَّدٌ فَإِنَّ قَوْمَكُمْ لَمْ يَصْنَعُوا بِكُمْ شَيْئًا. فَيَوْمَئِذٍ سُمِّي الْأَخْنَسُ: وَكَانَ اسْمَهُ "أُبَيٌّ" فَالْتَقَى الْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ، فَخَلَا الْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ: أُصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لِصَادِقٌ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَتْ بَنُو قُصيّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ فَآيَاتُ اللَّهِ: مُحَمَّدٌ ﷺ.
* * *وَقَوْلُهُ ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ] ﴾(١٣) هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ(١٤) ﷺ وَتَعْزِيَةٌ لَهُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمْرٌ لَهُ بِالصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَوَعْدٌ لَهُ بِالنَّصْرِ كَمَا نُصِرُوا، وَبِالظَّفَرِ حَتَّى كَانَتْ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، بَعْدَ مَا نَالَهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَالْأَذَى الْبَلِيغِ، ثُمَّ جَاءَهُمُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا لَهُمُ النَّصْرُ فِي الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ أَيِ: الَّتِي كَتَبَهَا بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١٧١ -١٧٣] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ٢١] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ أَيْ: مَنْ خَبَرِهِمْ كَيْفَ نُصِروا وأُيدوا عَلَى مَنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ قَوْمِهِمْ، فَلَكَ فِيهِمْ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ أَيْ: إِنْ كَانَ شَقَّ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النَّفقُ: السّرْب، فَتَذْهَبَ فِيهِ ﴿فَتَأْتِيَهُمْ(١٥) بِآيَةٍ﴾ أَوْ تَجْعَلَ لَكَ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَصْعَدَ فِيهِ فَتَأْتِيَهُمْ(١٦) بِآيَةٍ أَفْضَلَ مِمَّا آتَيْتَهُمْ بِهِ، فَافْعَلْ.وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، والسُّدِّي، وغيرهما.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ](١٧) ﴾ [يُونُسَ: ٩٩] ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُتَابِعُوهُ(١٨) عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤَمِنُ إِلَّا مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِدُعَائِكَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَيَعِيهِ وَيَفْهَمُهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس: ٧٠] ، وَقَوْلُهُ ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ يَعْنِي: بِذَلِكَ الْكَفَّارَ؛ لِأَنَّهُمْ مَوْتَى الْقُلُوبِ، فَشَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِأَمْوَاتِ(١٩) الْأَجْسَادِ فَقَالَ: ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَالِازْدِرَاءِ عَلَيْهِمْ.

(١) زيادة من أ.
(٢) رواه الترمذي في السنن برقم (٤٠٦٤) من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان به، وقال الترمذي: "وهذا أصح" والطبري في تفسيره (١١/٣٣٤) من طريق عبد الرحمن بن مهدى - وتابعه يحيى بن آدم - عن سفيان به مرسلا.
(٣) المستدرك (٢/٣١٥) وتعقبه الذهبي بقول: ناجية بن كعب لم يخرجا له شيئا.
(٤) في م، أ "لأعلم".
(٥) في د، أ: "به".
(٦) في د، م: "يفتنوا".
(٧) في د، م: "أصبحوا".
(٨) زيادة من أ.
(٩) في م: "أخبروني".
(١٠) في م، أ: "قال تنازعنا".
(١١) سيرة ابن إسحاق برقم (٢٣٢) طـ - المغرب.
(١٢) في د: "ذب"
(١٣) زيادة من م.
(١٤) في أ: "لمحمد".
(١٥) في أ: "فيذهب فيه "فيأتيهم".
(١٦) في أ "فيصعد فيه فيأتيهم".
(١٧) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(١٨) في م: "ويبايعوه".
(١٩) في أ: "فشبههم بالأموات".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣١_٣٢ 
من سورة الأنعام 
﴿قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِلِقَاۤءِ ٱللَّهِۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةࣰ قَالُوا۟ یَـٰحَسۡرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطۡنَا فِیهَا وَهُمۡ یَحۡمِلُونَ أَوۡزَارَهُمۡ عَلَىٰ ظُهُورِهِمۡۚ أَلَا سَاۤءَ مَا یَزِرُونَ (٣١) وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱۖ وَلَلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (٣٢)﴾ [الأنعام ٣١-٣٢]

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ خَسَارة مَنْ كَذَّبَ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَعَنْ خَيْبَتِهِ إِذَا جَاءَتْهُ السَّاعَةُ بَغْتَةً، وَعَنْ نَدَامَتِهِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنَ الْعَمَلِ، وَمَا أَسْلَفَ مِنْ قَبِيحِ الْفِعَالِ(١) وَلِهَذَا قَالَ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾وَهَذَا الضَّمِيرُ يُحْتَمَلُ عَوْدُه عَلَى الْحَيَاةِ [الدُّنْيَا](٢) وَعَلَى الْأَعْمَالِ، وَعَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ: فِي أَمْرِهَا.
* * *وَقَوْلُهُ ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ أَيْ: يَحْمِلُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْمَلُونَ.[وَ](٣) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ قَالَ: ويُستقبل الْكَافِرُ -أَوِ: الْفَاجِرُ -(٤) -عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ كَأَقْبَحِ صُورَةٍ رَآهَا وَأَنْتَنَ(٥) رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَوْ مَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ إلا أن الله [قد](٦) قَبَّحَ وَجْهَكَ ونَتَّن رِيحَكَ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، هَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا خَبِيثَ الْعَمَلِ مُنْتِنَهُ، طَالَمَا(٧) رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا، هَلُمَّ أَرْكَبُكَ، فَهُوَ قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ﴾(٨)(٩)وَقَالَ أَسْبَاطٌ: عَنِ السُّدِّي أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ظَالِمٍ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ قَبْرَهُ إِلَّا جَاءَهُ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، أَسْوَدُ اللَّوْنِ، مُنْتِنُ الرَّائِحَةِ(١٠) عَلَيْهِ ثِيَابٌ دَنِسَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ قَبْرَهُ، فَإِذَا رَآهُ قَالَ: مَا أَقْبَحَ وَجْهُكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ قَبِيحًا(١١) قَالَ: مَا أَنْتَنَ(١٢) رِيحُكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ مُنْتِنًا(١٣) ! قَالَ: مَا أَدْنَسَ ثِيَابُكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَكَ كَانَ دَنِسًا. قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَمَلُكَ! قَالَ: فَيَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، فَإِذَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَحْمِلُكَ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَنْتَ الْيَوْمَ تَحْمِلُنِي. قَالَ: فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَسُوقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ أَيْ: إِنَّمَا غَالِبُهَا كَذَلِكَ ﴿وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾

(١) في أ: "الفعل".
(٢) زيادة من م.
(٣) زيادة من أ.
(٤) في أ: "والفاجر".
(٥) في أ: رأينها وأنتنه".
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) في أ: "فطال ما".
(٨) زيادة من م، أ.
(٩) وهذا مرسل، وأبو مرزوق التجيبي، قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به. وقد روى هذا الأثر موقوفا على عمرو بن قيس الملائي دون ذكر أبي مرزوق. ورواه الطبري في تفسيره (١١/٣٢٧) عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَمْرِو به.
(١٠) في أ: "الريح".
(١١) في أ: "قبيح" وهو خطأ.
(١٢) في أ: "ما أنت".
(١٣) في أ: "منتن".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 23 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٥٠_١٥٢
من سورة النساء 
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضࣲ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضࣲ وَیُرِیدُونَ أَن یَتَّخِذُوا۟ بَیۡنَ ذَ ٰ⁠لِكَ سَبِیلًا (١٥٠) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ حَقࣰّاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا (١٥١) وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ سَوۡفَ یُؤۡتِیهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا (١٥٢)﴾ [النساء ١٥٠-١٥٢]

يَتَوَعَّدُ [تَبَارَكَ وَ](١) تَعَالَى الْكَافِرِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، حَيْثُ فَرّقوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ، فَآمَنُوا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْعَادَةِ، وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، لَا عَنْ دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ. فَالْيَهُودُ -عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ-آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ إلا عيسى ومحمد عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِخَاتَمِهِمْ وَأَشْرَفِهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَالسَّامِرَةُ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ بَعْدَ يُوشَعَ خَلِيفَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَالْمَجُوسُ يُقَالُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ(٢) زَرَادِشْتُ، ثُمَّ كَفَرُوا بِشَرْعِهِ، فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَاللَّهُ(٣) أَعْلَمُ.وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ كَفَرَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ بِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَنْ رَدَّ نُبُوَّتَهُ لِلْحَسَدِ أَوِ الْعَصَبِيَّةِ أَوِ التَّشَهِّي تَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ إِيمَانًا شَرْعِيًّا، إِنَّمَا هُوَ عَنْ غَرَضٍ وَهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ فَوَسْمَهُمْ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ أَيْ: فِي الْإِيمَانِ ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا﴾ أَيْ: طَرِيقًا وَمَسْلَكًا.ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ، فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ أَيْ: كُفْرُهُمْ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ بِمَنِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْعِيًّا، إِذْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ لِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ لَآمَنُوا بِنَظِيرِهِ، وَبِمَنْ هُوَ أَوْضَحُ دَلِيلًا وَأَقْوَى بُرْهَانًا مِنْهُ، لَوْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ فِي نُبُوَّتِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أَيْ: كَمَا اسْتَهَانُوا بِمَنْ كَفَرُوا بِهِ إِمَّا لِعَدَمِ نَظَرِهِمْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى جَمْعِ حُطَامِ الدُّنْيَا مِمَّا لَا ضَرُورَةَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَإِمَّا بِكُفْرِهِمْ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَعَادُوهُ وَقَاتَلُوهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ الدُّنْيَوِيَّ الْمَوْصُولَ بِالذُّلِّ الْأُخْرَوِيِّ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٦١] فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَبِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ](٤) ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥] .ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمُ الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ وَالثَّوَابَ الْجَلِيلَ وَالْعَطَاءَ الْجَمِيلَ، فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ عَلَى مَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أَيْ: لِذُنُوبِهِمْ أَيْ: إِنْ كَانَ لبعضهم ذنوب.

(١) زيادة من ر، أ.
(٢) في ر، أ: "اسمه".
(٣) في ر: "فالله".
(٤) زيادة من: ر، أ، وفي هـ: "الآية".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 21 ديسمبر 2022

من سورة الروم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢٢_٢٣ 
من سورة الروم
﴿وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَ ٰ⁠نِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡعَـٰلِمِینَ (٢٢) وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ مَنَامُكُم بِٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبۡتِغَاۤؤُكُم مِّن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَسۡمَعُونَ (٢٣)﴾ [الروم ٢٢-٢٣]

يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ العظيمة ﴿خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أي: خلق السموات فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَشُفُوفِ أَجْرَامِهَا وَزِهَارَةِ كَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْأَرْضَ فِي انْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ، وَبِحَارٍ وَقِفَارٍ، وَحَيَوَانٍ وَأَشْجَارٍ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾ يَعْنِي: اللُّغَاتِ، فَهَؤُلَاءِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهَؤُلَاءِ تَتَرٌ لَهُمْ لُغَةٌ أُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ كَرَج، وَهَؤُلَاءِ رُومٌ، وَهَؤُلَاءِ إِفْرِنْجُ، وَهَؤُلَاءِ بَرْبر، وَهَؤُلَاءِ تكْرور، وَهَؤُلَاءِ حَبَشَةٌ، وَهَؤُلَاءِ هُنُودٌ، وَهَؤُلَاءِ عَجَمٌ، وَهَؤُلَاءِ صَقَالِبَةٌ، وَهَؤُلَاءِ خَزَرٌ، وَهَؤُلَاءِ أَرْمَنٌ، وَهَؤُلَاءِ أَكْرَادٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ، وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ وَهِيَ حُلاهم، فَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ -بَلْ أَهْلِ الدُّنْيَا -مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: كُلٌّ له عينان وحاجبان، وأنف وجبين، وَفَمٌ وَخَدَّانِ. وَلَيْسَ يُشْبِهُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَارِقَهُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمْتِ أَوِ الْهَيْئَةِ أَوِ الْكَلَامِ، ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا، يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، كُلُّ وَجْهٍ مِنْهُمْ أُسْلُوبٌ بِذَاتِهِ وَهَيْئَةٌ لَا تُشْبِهُ الْأُخْرَى. وَلَوْ تَوَافَقَ جَمَاعَةٌ فِي صِفَةٍ مِنْ جَمَالٍ أَوْ قُبْحٍ(١) ، لَا بُدَّ مِنْ فَارِقٍ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَبَيْنَ الْآخَرِ، ﴿إنَّ فِي ذَلِك لَآيَاتٍ للعَالَمين وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أَيْ: وَمِنِ الْآيَاتِ مَا جُعِلَ لَكُمْ مِنْ صِفَةِ النُّوَّمِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِيهِ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ وَسُكُونُ الْحَرَكَةِ، وَذَهَابُ الْكَلَالِ وَالتَّعَبِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الِانْتِشَارَ وَالسَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَسْفَارِ فِي النَّهَارِ، وَهَذَا ضِدُّ النَّوْمِ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أَيْ: يَعُونَ.قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ عِمْرَانَ السَّدُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلاثة، حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ(٢) ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَصَابَنِي أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ غَارَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، [أَنِمْ عَيْنِي وَ](٣) أَهْدِئْ لَيْلِي" فَقُلْتُهَا فَذَهَبَ عَنِّي(٤) .

(١) في أ: "قبيح".
(٢) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(٣) زيادة من ت، ف، ومعجم الطبراني.
(٤) المعجم الكبير (٥/١٢٤) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (٧٤٥) وابن عدي في الكامل (٥/١٥٠) من طريق عمرو بن الحصين به، وقال ابن عدي: "تفرد به عمرو بن الحصين وهو مظلم الحديث، ويروي عن قوم معروفين". وله شاهد من حديث أنس، حسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (٣/١٧٧) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة الروم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢٠_٢١ من سورة الروم 
﴿وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦۤ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابࣲ ثُمَّ إِذَاۤ أَنتُم بَشَرࣱ تَنتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦۤ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَ ٰ⁠جࣰا لِّتَسۡكُنُوۤا۟ إِلَیۡهَا وَجَعَلَ بَیۡنَكُم مَّوَدَّةࣰ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ (٢١)﴾ [الروم ٢٠-٢١]

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ﴿ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ ، فَأَصْلُكُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ تَصَوّر فَكَانَ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارَ عِظَامًا، شَكْلُهُ عَلَى شَكْلِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ كَسَا اللَّهُ تِلْكَ الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، فَإِذَا هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ صَغِيرًا ضَعِيفَ الْقُوَى وَالْحَرَكَةِ، ثُمَّ كَلَّمَا طَالَ عُمْرُهُ تَكَامَلَتْ قُوَاهُ وَحَرَكَاتُهُ حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ صَارَ يَبْنِي الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ، وَيُسَافِرُ فِي أَقْطَارِ الْأَقَالِيمِ، وَيَرْكَبُ مَتْنَ الْبُحُورِ، وَيَدُورُ أقطارَ الْأَرْضِ وَيَتَكَسَّبُ وَيَجْمَعُ الْأَمْوَالَ، وَلَهُ فِكْرَةٌ وَغَوْرٌ، وَدَهَاءٌ وَمَكْرٌ، وَرَأْيٌ وَعِلْمٌ، وَاتِّسَاعٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ. فَسُبْحَانَ مَنْ أَقْدَرَهُمْ وسَيّرهم وَسَخَّرَهُمْ وَصَرَّفَهُمْ فِي فُنُونِ الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفِكْرَةِ، وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وغُنْدَر، قَالَا حَدَّثَنَا عَوْف، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ(١) ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزَنُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ".وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، بِهِ(٢) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أَيْ: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا يَكُنَّ لَكُمْ أَزْوَاجًا، ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٨٩] يَعْنِي بِذَلِكَ: حَوَّاءَ، خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ آدَمَ مِنْ ضِلَعه الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ. وَلَوْ أَنَّهُ جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ [مِنْ غَيْرِهِمْ](٣) إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ، بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَة لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مَوَدَّةً: وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَرَحْمَةً: وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ(٤) يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ .

(١) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(٢) المسند (٤/٤٠٠) وسنن أبي داود برقم (٣٦٩٣) وسنن الترمذي برقم (٢٩٥٥) .
(٣) زيادة من ت، ف.
(٤) في ت، ف: "فالرجل".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 17 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٤١
من سورة النساء 
﴿ٱلَّذِینَ یَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحࣱ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَـٰفِرِینَ نَصِیبࣱ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَیۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۚ فَٱللَّهُ یَحۡكُمُ بَیۡنَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۗ وَلَن یَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ سَبِیلًا﴾ [النساء ١٤١]

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ دَوَائِرَ السُّوءِ، بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ زَوَالَ دَوْلَتِهِمْ، وَظُهُورَ الْكُفْرِ(١) عَلَيْهِمْ، وَذَهَابَ مِلَّتِهِمْ ﴿. فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ﴾ أَيْ: نَصْرٌ وَتَأْيِيدٌ وظَفَر وَغَنِيمَةٌ ﴿قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ ؟ أَيْ: يَتَوَدَّدُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ أَيْ: إِدَالَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَإِنَّ الرُّسُلَ تُبْتَلَى ثُمَّ يَكُونُ لَهَا(٢) الْعَاقِبَةُ ﴿قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ؟ أَيْ: سَاعَدْنَاكُمْ فِي الْبَاطِنِ، وَمَا أَلَوْنَاهُمْ خَبَالًا وَتَخْذِيلًا حَتَّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيْهِمْ.وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ١٩] وَهَذَا أَيْضًا تَوَدُّدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَانِعُونَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ؛ لِيَحْظَوْا عِنْدَهُمْ وَيَأْمَنُوا كَيْدَهُمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ، وَقِلَّةِ إِيقَانِهِمْ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ(٣) يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أَيْ: بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْكُمْ -أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ-مِنِ الْبَوَاطِنِ الرَّدِيئَةِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْكُمْ ظَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِمَا لَهُ [تَعَالَى](٤) فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَنْفَعُكُمْ(٥) ظَوَاهِرُكُمْ، بَلْ هُوَ يَوْمٌ تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ ويُحَصَّل مَا فِي الصُّدُورِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَرّ، عَنْ يُسَيْع الْكِنْدِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: كَيْفَ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ادْنُه ادْنُهْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾وَكَذَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ قَالَ: ذَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَذَا رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ أي: حجة.وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، بِأَنْ يُسَلَّطُوا عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ اسْتِئْصَالٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ ظَفَرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ](٦) ﴾ [غَافِرٍ: ٥١، ٥٢] . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِيمَا أَمَلَوْهُ وَتَرَبَّصُوهُ(٧) وَانْتَظَرُوهُ مِنْ زَوَالِ دَوْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُصَانَعَتِهِمُ الْكَافِرِينَ، خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ إِذَا هُمْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ](٨) نَادِمِينَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٥٢] .وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ(٩) بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ لِمَا فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ لَهُ عَلَيْهِ وَالْإِذْلَالِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالصِّحَّةِ يَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾

(١) في د، ر، أ: "الكفرة".
(٢) في ر: "تكون لها"، وفي أ: "تكون لهم".
(٣) في ر: "بينهم".
(٤) زيادة من: أ.
(٥) في ر: "ينفعكم".
(٦) زيادة من ر أ، وفي هـ: "الآية".
(٧) في ر: "ويرجوه".
(٨) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى قوله".
(٩) في ر، أ: "الفقهاء".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة النساء

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ ثُمَّ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ ثُمَّ ٱزۡدَادُوا۟ كُفۡرࣰا لَّمۡ یَكُنِ ٱللَّهُ لِیَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِیَهۡدِیَهُمۡ سَبِیلَۢا (١٣٧) بَشِّرِ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا (١٣٨) ٱلَّذِینَ یَتَّخِذُونَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۚ أَیَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِیعࣰا (١٣٩) وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ یُكۡفَرُ بِهَا وَیُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُوا۟ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ یَخُوضُوا۟ فِی حَدِیثٍ غَیۡرِهِۦۤ إِنَّكُمۡ إِذࣰا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱلۡكَـٰفِرِینَ فِی جَهَنَّمَ جَمِیعًا (١٤٠)﴾ [النساء ١٣٧-١٤٠]

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ(١) وَازْدَادَ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ لَا تَوْبَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا، وَلَا طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا﴾قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ جُمَيع، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ قال: تَمَّمُوا(٢) عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ.وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْمُعَلَّى، عَنْ عَامِرٍ الشّعْبي، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ، ثَلَاثًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا﴾ثُمَّ قَالَ: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ يَعْنِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، يُوَالُونَهُمْ وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ إِذَا خَلَوْا بِهِمْ: إِنَّمَا نَحْنُ مَعَكُمْ، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. أَيْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي إِظْهَارِنَا لَهُمُ الْمُوَافَقَةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ ؟ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِمَنْ جَعَلَهَا لَهُ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فَاطِرٍ: ١٠] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: ٨] .وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّهْيِيجِ عَلَى طَلَبِ الْعِزَّةِ مِنْ جَنَابِ اللَّهِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ، وَالِانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمُ النُّصْرَةُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.ويُنَاسبُ أَنْ يُذْكَرَ(٣) هَاهُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْد الْكِنْدِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيِّ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ، يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَفَخْرًا، فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ".تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ(٤) وَأَبُو رَيْحَانَةَ هَذَا هُوَ أَزْدِيٌّ، وَيُقَالُ: أَنْصَارِيٌّ. اسْمُهُ(٥) شَمْعُونُ بِالْمُعْجَمَةِ، فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بِالْمُهْمَلَةِ، وَاللَّهُ(٦) أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ [تَعَالَى](٧) ﴿وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ أَيْ: إِذَا ارْتَكَبْتُمِ النَّهْيَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْكُمْ، وَرَضِيتُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُكْفَرُ فِيهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأُ وَيُنْتَقَصُ بِهَا، وَأَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الَّذِي هُمْ فِيهِ. فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [أَيْ](٨) فِي الْمَأْثَمِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَار عَلَيْهَا الخَمْر"(٩) .وَالَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ فِي(١٠) ذَلِكَ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ](١١) ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٦٨] قَالَ مُقَاتِلُ بُنُ حَيَّانَ: نَسَخَت هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ. يَعْنِي نُسخَ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ لِقَوْلِهِ ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٦٩] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ أَيْ: كَمَا أَشْرَكُوهُمْ(١٢) فِي الْكُفْرِ، كَذَلِكَ شَارَكَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ(١٣) فِي الْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَبَدًا، وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَالْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ. وَشَرَابِ(١٤) الْحَمِيمِ والغِسْلين لا الزّلال.

(١) في أ: "ضلالته".
(٢) في ر، أ: "تموا".
(٣) في ر: "ومناسب أن ذكر".
(٤) المسند (٤/١٣٣) قال الهيثمي في المجمع (٨/٨٥) : "رجال أحمد ثقات".
(٥) في ر، أ: "واسمه".
(٦) في ر، أ: "فالله".
(٧) زيادة من ر، أ.
(٨) زيادة من ر، أ.
(٩) رواه الترمذي في سننه برقم (٢٨٠١) من حديث جابر، وفي إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف، ورواه أحمد في المسند (١/٢٠) من حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي إسناده مجهول، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١١/١٩١) من حديث عبد الله ابن عباس، وفي إسناده يحيى بن أبي سليمان وهو ضعيف.
(١٠) في ر: "عن".
(١١) زيادة من: ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(١٢) في ر، أ: "اشتركوا".
(١٣) في أ: "عليهم".
(١٤) في ر، أ: "وشرب".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 16 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٣٦
من سورة النساء 
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلَّذِی نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن یَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا﴾ [النساء ١٣٦]

يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ وَأَرْكَانِهِ وَدَعَائِمِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، بَلْ مِنْ بَابِ تَكْمِيلِ الْكَامِلِ وَتَقْرِيرِهِ وَتَثْبِيتِهِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ. كَمَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الْفَاتِحَةِ: ٦] أَيْ: بَصِّرنا فِيهِ، وَزِدْنَا هُدَى، وَثَبِّتْنَا عَلَيْهِ. فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ [الْحَدِيدِ: ٢٨] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ﴾ وَهَذَا جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ: ﴿نزلَ﴾ ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى الْوَقَائِعِ، بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ إِلَيْهِ فِي مَعَادِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَأَمَّا الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَكَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ﴾ ثُمَّ قَالَ ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا﴾ أَيْ: فَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَبَعُدَ عَنِ الْقَصْدِ كُلَّ الْبُعْدِ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 12 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٢٧
من سورة النساء 
﴿وَیَسۡتَفۡتُونَكَ فِی ٱلنِّسَاۤءِۖ قُلِ ٱللَّهُ یُفۡتِیكُمۡ فِیهِنَّ وَمَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ فِی یَتَـٰمَى ٱلنِّسَاۤءِ ٱلَّـٰتِی لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَ ٰ⁠نِ وَأَن تَقُومُوا۟ لِلۡیَتَـٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُوا۟ مِنۡ خَیۡرࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِیمࣰا﴾ [النساء ١٢٧]

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي أَبِي(١) عَنْ عَائِشَةَ: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ قَالَتْ: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ، هُوَ وَلِيُّهَا وَوَارِثُهَا قَدْ شَرِكته فِي مَالِهِ، حَتَّى فِي العَذْق، فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يزوِّجها رَجُلًا فَيَشْرَكَهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلُهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيب، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي أُسَامَةَ(٢) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ استفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ الْآيَةَ، قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الْأَوْلَى الَّتِي قَالَ اللَّهِ [تَعَالَى](٣) ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النِّسَاءِ: ٣] .وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجِمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجِمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ، مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ.وَأَصْلُهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأيْلي، بِهِ(٤) .وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا، فَتَارَةً يَرْغَبُ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُمْهِرَهَا أُسْوَةَ أَمْثَالِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيَعْدِلْ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَتَارَةً لَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ فِيهَا رَغْبَةٌ لِدَمَامَتِهَا عِنْدَهُ، أَوْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعضِلها عَنِ الْأَزْوَاجِ خَشْيَةَ أَنْ يَشْركوه فِي مَالِهِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاء [اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ](٥) ﴾ الْآيَةَ، فَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ، فَيُلْقِي عَلَيْهَا ثَوْبَهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ [بِهَا](٦) لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يتَزَوّجها أَبَدًا، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَهَوِيَهَا تَزَوَّجَها وَأَكَلَ مَالَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً مَنْعَهَا الرِّجَالَ أَبَدًا حَتَّى تَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا. فَحَرَّم اللَّهُ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ.وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُورِثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْبَنَاتَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وبيَّن لِكُلِّ ذِي سَهْمٍ سَهْمَهُ، فَقَالَ: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ﴾ [النِّسَاءِ: ١١] صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا.وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ كَمَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جِمَالٍ وَمَالٍ نَكَحْتَهَا وَاسْتَأْثَرْتَ بِهَا، كَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ جِمَالٍ وَلَا مَالٍ فَانْكِحْهَا وَاسْتَأْثِرْ بِهَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ تهييجًا(٧) عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ(٨) وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَالِمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَسَيَجْزِي عَلَيْهِ أوفر الجزاء وأتمه.

(١) في ر: "عن أبيه".
(٢) صحيح البخاري برقم (٥١٣١) وصحيح مسلم برقم (٣٠١٨) .
(٣) زيادة من أ.
(٤) صحيح البخاري برقم (٥٠٦٤) وصحيح مسلم برقم (٣٠١٨) .
(٥) زيادة من ر، أ.
(٦) زيادة من أ.
(٧) في ر: "تهييج".
(٨) في أ: "الأوامر".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأحد، 11 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٢٣_١٢٦
من سورة النساء 
﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا یُجۡزَ بِهِۦ وَلَا یَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا (١٢٣) وَمَن یَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ نَقِیرࣰا (١٢٤) وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِینࣰا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ حَنِیفࣰاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ خَلِیلࣰا (١٢٥) وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءࣲ مُّحِیطࣰا (١٢٦)﴾ [النساء ١٢٣-١٢٦]

قَالَ قَتَادَةُ: ذُكرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ نَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا](١) ﴾ الْآيَةَ. فَأَفْلَجَ اللَّهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ.وَكَذَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَمَسْرُوقٍ، وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي صَالِحٍ، وَغَيْرِهِمْ وَكَذَا رَوَى العَوْفيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تخاصَمَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ فَقَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: كِتَابُنَا خَيْرُ الْكُتُبِ، وَنَبِيُّنَا خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ: لَا دِينَ إِلَّا الْإِسْلَامُ. وَكِتَابُنَا نَسَخَ كُلَّ كِتَابٍ، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وأُمرْتُم وَأُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكِتَابِكُمْ وَنَعْمَلَ بِكِتَابِنَا. فَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ وخَيَّر بَيْنَ الْأَدْيَانِ فَقَالَ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا](٢) ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتِ الْعَرَبُ: لَنْ نبْعث وَلَنْ نُعذَّب. وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [الْبَقَرَةِ: ١١١] وَقَالُوا ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [الْبَقَرَةِ: ٨٠] .وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَيْسَ كُلّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا حَصَلَ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَالَ: "إِنَّهُ هُوَ المُحق" سُمِعَ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لَهُمُ النَّجَاةُ بِمُجَرَّدِ التَّمَنِّي، بَلِ الْعِبْرَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ مَا شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ الْكِرَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] .وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْر، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ قَالَ: أخْبرْتُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هذه الآية: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فَكُل سُوءٍ عَمِلْنَاهُ جُزِينَا بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "غَفَر اللَّهُ لكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، ألستَ تَمْرضُ؟ ألستَ تَنْصَب؟ أَلَسْتَ تَحْزَن؟ أَلَسْتَ تُصيبك اللَّأْوَاءُ(٣) ؟ " قَالَ: بَلَى. قَالَ: "فهو ما تُجْزَوْنَ به".وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي يَعلى، عَنْ أَبِي خَيْثَمة، عَنْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهِ(٤) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ زِيَادٍ الْجَصَّاصِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا"(٥) .وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هُشَيْم بْنِ جُهَيْمَة، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، حَدَّثَنَا زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: انْظُرُوا الْمَكَانَ الَّذِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَصْلُوبًا وَلَا تمرُّنَّ عَلَيْهِ. قَالَ: فَسَهَا الْغُلَامُ، فَإِذَا ابْنُ عُمَرَ يَنْظُرُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ ثَلَاثًا، أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا صَوَّامًا قَوَّامًا وَصَّالًا(٦) لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ مَعَ مُتَسَاوِي مَا أصبتَ أَلَّا يُعَذِّبَكَ اللَّهُ بَعْدَهَا. قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا فِي الدُّنْيَا يُجْزَ بِهِ".وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، بِهِ(٧) مُخْتَصَرًا. وَقَدْ قَالَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ العُروفي(٨) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حَيّان، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي حَيَّانَ بْنِ بِسْطَامٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ، فَمَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ مَصْلُوبٌ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ أَبَا خُبيب، سَمِعْتُ أَبَاكَ -يَعْنِي الزُّبَيْرَ-يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى" ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.(٩)وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عبيدة، حدثني مولى بن سِبَاع قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، هَلْ أُقْرِئُكَ آيَةً نَزَلَتْ عَلَيَّ؟ " قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَقْرَأَنِيهَا فَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنِّي وَجَدْتُ انقصَامًا فِي ظَهْرِي حَتَّى تَمَطَّأْتُ(١٠) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مالك يَا أَبَا بَكْرٍ؟ " قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ، وَإِنَّا لمجْزيُّون بِكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَّا أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ الْمُؤْمِنُونَ فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ في الدُّنْيَا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ، وَلَيْسَ لَكُمْ ذُنُوبٌ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَيُجْمَعُ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُجْزَوْا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمُوسَى بن عبيدة يضعف، ومولى بن سِبَاعٍ مَجْهُولٌ(١١) .[وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْغُلَامُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: لمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّمَا هِيَ الْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا"](١٢) .طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ الصِّدِّيقِ: قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيح، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ [الصِّدِّيقُ](١٣) يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَشَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الْمَصَائِبُ وَالْأَمْرَاضُ وَالْأَحْزَانُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ"(١٤) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَا حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قُنْفُذ(١٥) عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ مَا نَعْمَلُ نُؤَاخَذُ بِهِ؟ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ يُصِيبُكَ كَذَا وَكَذَا؟ فَهُوَ كَفَّارَةٌ"(١٦) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سِوَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي يَزِيدَ حَدَّثَهُ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا تَلَا هذه الآية: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فَقَالَ: إِنَّا لنُجْزَى بِكُلِّ عَمَل(١٧) ؟ هَلَكْنَا إذًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "نَعَمْ، يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا، فِي نَفْسِهِ، فِي جَسَدِهِ، فِيمَا يُؤْذِيهِ"(١٨) .طَرِيقٌ(١٩) أُخْرَى: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْم، عَنْ أَبِي عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَشَدَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ. فَقَالَ: "مَا هِيَ يَا عَائِشَةُ؟ " قُلْتُ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فَقَالَ: "هُوَ مَا يُصِيبُ العبد المؤمن حتى النَّكْبَة يَنْكُبها".رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ الْخَزَّازِ(٢٠) بِهِ(٢١) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمَيَّةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فَقَالَتْ: مَا سَأَلَنِي عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فقال: "يَا عَائِشَةُ، هَذِهِ مُبَايَعَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، مِمَّا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى والنَّكْبَة وَالشَّوْكَةِ، حَتَّى الْبِضَاعَةُ فيضعها فِي كُمِّه فَيَفْزَعُ لَهَا، فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ، حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنَ الكِير"(٢٢) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ(٢٣) إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُرَيج(٢٤) بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئل رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الفَيْظ(٢٥) عِنْدَ الْمَوْتِ".وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بالحَزَن ليُكَفِّرها عَنْهُ"(٢٦) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سَعِيدُ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِن، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَة، يُخْبِرُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ شَقّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "سَدِّدوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ فِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكها، والنَّكْبَة يَنْكُبُهَا".وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ(٢٧) وَرَوَاهُ ابْنُ مَردُويه مِنْ حَدِيثِ رَوْحٍ وَمُعْتَمِرٍ كِلَاهُمَا، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ(٢٨) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَبْقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَكَمَا نَزَلَتْ، وَلَكِنْ أَبْشِرُوا وَقَارِبُوا وسَدِّدوا؛ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ أحدًا منكم فِي الدُّنْيَا إِلَّا كفَّر اللَّهُ بِهَا خَطِيئَتَهُ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكها أَحَدُكُمْ فِي قَدَمِهِ"(٢٩) .وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصب وَلَا وَصَب وَلَا سَقَم وَلَا حَزَن، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمّه، إِلَّا كُفّر بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" أَخْرَجَاهُ(٣٠) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبِ بنُ عُجْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ الَّتِي تُصِيبُنَا؟ مَا لَنَا بِهَا؟ قَالَ: "كَفَّارَاتٌ". قَالَ أُبَيٌّ: وَإِنْ قَلَّتْ؟ قَالَ: "وَإِنْ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا" قَالَ: فَدَعَا أُبَيٌّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ الْوَعْك حَتَّى يَمُوتَ، فِي أَلَّا يَشْغَلَهُ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، وَلَا جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي جَمَاعَةٍ، فَمَا مَسَّهُ إِنْسَانٌ إِلَّا وَجَدَ حَرَّهُ، حَتَّى مَاتَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ(٣١) .حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَمَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً يُجزَ بِهَا عَشْرًا. فَهَلَكَ مَنْ غَلَبَ وَاحِدَتُهُ(٣٢) عَشْرًا"(٣٣) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ الْحَسَنِ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قَالَ: الْكَافِرُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ﴾ [سَبَأٍ: ١٧] .وَهَكَذَا رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُمَا فَسَّرَا السُّوءَ هَاهُنَا بِالشِّرْكِ أَيْضًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ عامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا](٣٤) ﴾ لَمَّا ذَكَرَ الْجَزَاءَ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ مُسْتَحَقَّهَا مِنَ الْعَبْدِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا -وَهُوَ الْأَجْوَدُ لَهُ -وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَنَسْأَلُهُ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالصَّفْحَ وَالْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ -شَرَعَ فِي بَيَانِ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادِهِ ذُكْرَانهم وَإِنَاثِهِمْ، بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يَظْلِمُهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا مِقْدَارَ النَّقِيرِ، وَهُوَ: النَّقْرَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَتِيلِ، وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ، وَهَذَا النَّقِيرُ وَهُمَا فِي نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَكَذَا الْقِطْمِيرُ وَهُوَ اللِّفَافَةُ الَّتِي عَلَى نَوَاةِ التَّمْرَةِ، الثَّلَاثَةُ فِي القرآن.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِرَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَعَمِلَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أَيِ: اتَّبَعَ فِي عَمَلِهِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ لَا يَصِحُّ عَمَلُ عَامِلٍ بِدُونِهِمَا، أَيْ: يَكُونُ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلشَّرِيعَةِ فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمن فَقَدَ الْعَمَلُ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَسَدَ. فَمَنْ فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراءون النَّاسَ، وَمَنْ فَقَدَ الْمُتَابَعَةَ كَانَ ضَالًّا جَاهِلًا. وَمَتَى جَمَعَهُمَا فَهُوَ عَمَلُ الْمُؤْمِنِينَ: ﴿الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ](٣٥) ﴾ [الْأَحْقَافِ: ١٦] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ وَهُمْ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ](٣٦) ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٦٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ](٣٧) ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٦١] وَ ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٣] وَالْحَنِيفُ: هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الشِّرْكِ قَصْدًا، أَيْ تَارِكًا لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ، وَمُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ بِكُلِّيَّتِهِ، لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُ رَادٌّ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ فِي اتِّبَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ، حَيْثُ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعِبَادُ لَهُ، فَإِنَّهُ انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الخُلَّة الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ مَقَامَاتِ الْمُحِبَّةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِرَبِّهِ، كَمَا وَصَفَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النَّجْمِ: ٣٧] قَالَ كَثِيرُونَ(٣٨) مِنَ السَّلَفِ: أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ ووفَّى(٣٩) كُلَّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَشْغَلُهُ أَمْرٌ جَلِيلٌ عَنْ حَقِيرٍ، وَلَا كَبِيرٌ عَنْ صَغِيرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا](٤٠) ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] . وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ](٤١) ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٠-١٢٢] .وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّى الصُّبْحَ بِهِمْ: فَقَرَأَ: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرّت عينُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ خَلِيلًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَصَابَ أَهْلَ نَاحِيَتِهِ جَدْب، فَارْتَحَلَ إِلَى خَلِيلٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ -وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ أَهْلِ مِصْرَ -لِيَمْتَارَ طَعَامًا لِأَهْلِهِ مِنْ قِبَله، فَلَمْ يُصِبْ عِنْدَهُ حَاجَتَهُ. فَلَمَّا قَرُب مِنْ أَهْلِهِ مَرَّ بِمَفَازَةٍ ذَاتِ رَمْلٍ، فَقَالَ: لَوْ مَلَأْتُ غَرَائري مِنْ هَذَا الرَّمْلِ، لِئَلَّا أغُمّ أَهْلِي بِرُجُوعِي إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ مِيرَةٍ، وَلِيَظُنُّوا أَنِّي أَتَيْتُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَتَحَوَّلَ مَا فِي غَرَائِرِهِ مِنَ الرَّمْلِ دَقِيقًا، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ نَامَ وقام أهله ففتحوا الغرائر، فَوَجَدُوا دَقِيقًا فَعَجَنُوا وَخَبَزُوا مِنْهُ فَاسْتَيْقَظَ، فَسَأَلَهُمْ عَنِ الدَّقِيقِ الَّذِي مِنْهُ خَبَزُوا، فَقَالُوا: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ خَلِيلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ مِنْ خَلِيلِي اللَّهِ. فَسَمَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ خَلِيلًا.وَفِي صِحَّةِ هَذَا وَوُقُوعِهِ نَظَرٌ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا إِسْرَائِيلِيًّا لَا يُصدَّق وَلَا يُكذَّب، وَإِنَّمَا سُمّي خَلِيلَ اللَّهِ لِشِدَّةِ مَحَبَّةِ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لَهُ، لِمَا قَامَ لَهُ(٤٢) مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ(٤٣) أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ"(٤٤) .وَجَاءَ مِنْ طَرِيقِ جُنْدُب بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلي، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: "إن اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا"(٤٥) .وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْد، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجَوْزجاني بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا عُبَيد اللَّهِ(٤٦) الحَنَفي، حَدَّثَنَا زَمْعة بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَام، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَنْتَظِرُونَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ، وَإِذَا بَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَجَبًا إِنِ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ! وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا! وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ! وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ! فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ: "قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَتَعَجُّبَكُمْ(٤٧) أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى كَلِيمُهُ، وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَآدَمَ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ أَلَا وَإِنِّي حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مشَفع وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَق الْجَنَّةِ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ".وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ(٤٨) وَغَيْرِهَا.وَقَالَ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الخُلَّة لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ، وَالْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدَكَ الْقَزْوِينِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدِ بْنِ سابق - حَدَّثَنَا عَمْرٌو -يَعْنِي ابْنَ أَبِي قَيْسٍ -عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ عُبَيْد بْنِ عُمَير قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُضِيفُ النَّاسَ، فَخَرَجَ يَوْمًا يَلْتَمِسُ إِنْسَانًا يُضِيفُهُ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُضِيفُهُ، فَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلًا قَائِمًا، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا أَدْخَلَكَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي؟ قَالَ: دَخَلْتُهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ، أَرْسَلَنِي رَبِّي إِلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ أُبَشِّرُهُ أَنَّ اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَوَاللَّهِ إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِ ثُمَّ كَانَ بِأَقْصَى الْبِلَادِ لَآتِيَنَّهُ(٤٩) ثُمَّ(٥٠) لَا أَبْرَحُ لَهُ جَارًا حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا الْمَوْتُ. قَالَ: ذَلِكَ الْعَبْدُ أَنْتَ. قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فِيمَ اتَّخَذَنِي اللَّهُ خَلِيلًا؟ قَالَ: إِنَّكَ تُعْطِي النَّاسَ وَلَا تَسْأَلُهُمْ(٥١) .وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الوَجَل، حَتَّى إِنْ كَانَ خفقانُ قَلْبِهِ لَيُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ(٥٢) كَمَا يُسْمَعُ خَفَقَانُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. وَهَكَذَا جَاءَ فِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ يُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجل مِنَ الْبُكَاءِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ أَيِ: الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، لَا رَادَّ لِمَا قَضَى، وَلَا مُعَقِّبَ لِمَا حَكَمَ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لِعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ أَيْ: عِلْمُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، لَا تَخْفَى(٥٣) عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يعْزُب عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ ذَرَّةٌ لِمَا(٥٤) تَرَاءَى لِلنَّاظِرِينَ وَمَا تَوَارَى.

(١) زيادة من ر، أ.
(٢) زيادة من ر.
(٣) في أ: "ألست يصيبك أذى".
(٤) المسند (١/١١) وسنن سعيد بن منصور برقم (٦٩٦) وصحيح ابن حبان برقم (١٧٣٤) "موارد" والمستدرك (٣/٧٤) .
(٥) المسند (١/٦) .
(٦) في ر، أ: "وصولا".
(٧) مسند البزار برقم (٢١) ، وقال الدارقطني في العلل (٤/٢٢٣) : "رواه زياد الجصاص واختلف عنه، فرواه عبد الوهاب بن عطاء عن زياد عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابن عمر عن أبي بكر، وخالفه أبو عاصم العباداني فرواه عن زياد الجصاص عن سالم عن ابن عمر عن عمر، وليس فيه شيء يثبت".
(٨) في ر، أ: "العوفي".
(٩) مسند البزار برقم (٩٦٢) ، وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٢) "فيه عبد الرحمن بن سليم بن حيان ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات"، والظاهر أنه عبد الرحيم، كما في العلل للدارقطني (٤/٢٢٣) حين سئل عن طريق سليم بن حيان عن أبيه عن ابن عمر فقال: يقوله عبد الرحمن بن سليم بن حيان عن أبيه عن ابن عمر، وقال مرة: عن أبيه عن نافع عن ابن عمر، وعبد الرحيم ضعيف، وزياد ضعيف".
(١٠) في ر، أ: "تمطأت لها".
(١١) سنن الترمذي برقم (٣٠٣٩) .
(١٢) زيادة من أ.
(١٣) زيادة من أ.
(١٤) ورواه أبو نعيم في الحلية (٨/١١٩) من هذا الطريق به، وفيه محمد السعدي كان يكذب ويضع.
(١٥) في أ: "نمير".
(١٦) تفسير الطبري (٩/٢٤٠) .
(١٧) في أ: "عمل عملنا".
(١٨) سنن سعيد بن منصور برقم (٦٩٩) ورواه أحمد في المسند (٦/٦٥) من طريق عبد الله بن وهب به.
(١٩) في أ: "حديث".
(٢٠) في ر، أ: "الجزار".
(٢١) تفسير الطبري (٩/٢٤٦) وسنن أبي داود برقم (٣٠٩٣) .
(٢٢) مسند الطيالسي برقم (١٥٨٤) ورواه أحمد في المسند (٦/٢١٨) من طريق حماد بن سلمة به.
تنبيه: وقع عند الطيالسي "معاتبة" بدل: "مبايعة" وعند أحمد "متابعة".
(٢٣) في ر: "أبو".
(٢٤) في ر، أ: "شريح".
(٢٥) في ر: "الغيض"، وفي أ: "الغيط". الفيظ: خروج الروح.
(٢٦) المسند (٦/١٥٧) .
(٢٧) سنن سعيد بن منصور برقم (٦٩٤) والمسند (٢/٢٤٨) وصحيح مسلم برقم (٢٥٧٤) ، وسنن الترمذي برقم (٥٠٢٩) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (١١١٢٢) .
(٢٨) في أ: "زيد".
(٢٩) وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزمي ضعيف.
(٣٠) صحيح البخاري برقم (٥٦٤١، ٥٦٤٢) . وصحيح مسلم برقم (٢٥٧٣) .
(٣١) المسند (٣/٢٣) ، ورواه أبو يعلى في مسنده (٢/٢٨١) وقال الهيثمي في المجمع (٢/٣٠١) : "رجاله ثقات".
(٣٢) في ر: "واحد" وفي أ: "واحدة".
(٣٣) وإسناده ضعيف جدا كما سبق في المقدمة.
(٣٤) زيادة من و، أ، وفي هـ "الآية".
(٣٥) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣٦) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣٧) زيادة من أ.
(٣٨) في د: "كثير".
(٣٩) في أ: "به وفى".
(٤٠) زيادة من ر، أ.
(٤١) زيادة من ر.
(٤٢) في أ: "لديه".
(٤٣) في أ: "رواية".
(٤٤) صحيح البخاري برقم (٣٦٥٤) وصحيح مسلم برقم (٢٣٨٢) ولفظه: "صاحبكم خليل الله" هي من حديث عبد الله بن مسعود، رواه مسلم برقم (٢٣٨٣) .
(٤٥) أما حديث جندب بن عبد الله فرواه مسلم في صحيحه برقم (٥٣٢) ، وأما حديث عبد الله بن عمرو فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٩٦١٦) ، وأما حديث عبد الله بن مسعود، فرواه مسلم في صحيحه برقم (٢٣٨٣) .
(٤٦) في د، ر: "عبد الله".
(٤٧) في أ: "عجبكم".
(٤٨) ورواه الترمذي في السنن برقم (٣٦١٦) وقال: "هذا حديث غريب".
(٤٩) في أ: "لأتيته".
(٥٠) في أ: "ثم قال لا ".
(٥١) وإسناده مرسل.
(٥٢) في ر: "بعد".
(٥٣) في ر: "يخفي".
(٥٤) في ر: "الذرة أما".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))