الأربعاء، 26 أبريل 2023

من سورة الكهف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٧_٤١ 
من سورة الكهف 
﴿قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ یُحَاوِرُهُۥۤ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِی خَلَقَكَ مِن تُرَابࣲ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلࣰا (٣٧) لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّی وَلَاۤ أُشۡرِكُ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا (٣٨) وَلَوۡلَاۤ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَاۤءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالࣰا وَوَلَدࣰا (٣٩) فَعَسَىٰ رَبِّیۤ أَن یُؤۡتِیَنِ خَیۡرࣰا مِّن جَنَّتِكَ وَیُرۡسِلَ عَلَیۡهَا حُسۡبَانࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَتُصۡبِحَ صَعِیدࣰا زَلَقًا (٤٠) أَوۡ یُصۡبِحَ مَاۤؤُهَا غَوۡرࣰا فَلَن تَسۡتَطِیعَ لَهُۥ طَلَبࣰا (٤١)﴾ [الكهف ٣٧-٤١]

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا أَجَابَهُ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ، وَاعِظًا لَهُ وَزَاجِرًا عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ: ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا﴾ ؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ وَتَعْظِيمٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ جُحُودِ رَبِّهِ، الَّذِي خَلَقَهُ وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مَنْ طِينٍ وَهُوَ آدَمُ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ:٢٨٠] أَيْ: كَيْفَ تجحَدُون رَبَّكُمْ، وَدَلَالَتُهُ عَلَيْكُمْ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُهَا مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا ثُمَّ وُجِدَ، وَلَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ بِمَثابَتِهِ فَعُلِمَ إِسْنَادُ(١) إِيجَادِهِ إِلَى خَالِقِهِ، وَهُوَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَلِذَا(٢) قَالَ: ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ أَيْ: أَنَا لَا أَقُولُ بِمَقَالَتِكَ، بَلْ أَعْتَرِفُ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ ﴿وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ أَيْ: بَلْ هُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا﴾ هَذَا تَحْضِيضٌ وَحَثٌّ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ: هَلَّا إِذَا أَعْجَبَتْكَ حِينَ دَخَلْتَهَا وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ به عليك، وأعطاك من المال والولد مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُكَ، وَقُلْتَ: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ﴾ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضَ السَّلَفِ: مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ حَالِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ، فَلْيَقُلْ: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ﴾ وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ:حَدَّثَنَا جَرَّاح بْنُ مَخْلَد، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَوْن، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زُرَارَة، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ، فَيَقُولُ: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ﴾ فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ الْمَوْتِ". وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ﴾(٣) .قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: عِيسَى بْنُ عَوْنٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَنَسٍ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَحَجَّاجٌ، حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى أَبِي رُهْم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ(٤)وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ(٥) عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُ: "أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"(٦)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَكْرُ(٧) بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، عَنْ أَبِي بَلَج، عَنْ عَمْرو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِي نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَدُلُّكَ(٨) عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ تَحْتَ الْعَرْشِ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: "أَنْ تَقُولَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" قَالَ أَبُو بَلْج: وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ: "فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ". قَالَ: فَقُلْتُ لِعَمْرٍو -قَالَ أَبُو بَلْج: قَالَ عَمْرو: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّهَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ﴾(٩)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ﴾ أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا﴾ أَيْ: عَلَى جَنَّتِكَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي ظَنَنْتَ أَنَّهَا لَا تَبِيدُ وَلَا تَفْنَى ﴿حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَيْ عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ.وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَطَرٌ عَظِيمٌ مُزْعِجٌ، يُقْلِعُ زَرْعَهَا وَأَشْجَارَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ أَيْ: بَلْقَعًا تُرَابًا أَمْلَسَ، لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدم.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كالجُرز الَّذِي لَا يُنْبِتُ شَيْئًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا﴾ أَيْ: غَائِرًا فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ ضِدُّ النَّابِعِ الَّذِي يُطْلَبُ وَجْهَ الْأَرْضِ، فَالْغَائِرُ يُطْلَبُ أَسْفَلَهَا(١٠) كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الْمُلْكِ:٣٠] أَيْ: جَارٍ وَسَائِجٍ. وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ وَالْغَوْرُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى غَائِرٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ(١١)تَظَلّ جيّادُهُ نَوْحًا عَلَيه ... تُقَلّدُهُ أعنَّتَها صُفُوفا ...بمعنى نائحات عليه.

(١) في ف: "استناد".
(٢) في ف: "ولهذا".
(٣) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٤٥٢٥) من طريق الحسن بن صباح، عن عمر بن يونس به.
(٤) المسند (٢/٤٦٩) .
(٥) في ف: "الصحيحين".
(٦) صحيح البخاري برقم (٦٦١٠) وصحيح مسلم برقم (٢٧٠٤) .
(٧) في ف، أ: "بكير".
(٨) في ت، ف: "ألا أدلك".
(٩) المسند (٢/٣٣٥) .
(١٠) في ت، ف: "أسفل".
(١١) البيت في تفسير الطبري (١٥/١٦٣) غير منسوب.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

ليست هناك تعليقات: