الجمعة، 30 أغسطس 2024

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٥٤_٥٥
من سورة يوسف 
﴿وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِی بِهِۦۤ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِیۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡیَوۡمَ لَدَیۡنَا مَكِینٌ أَمِینࣱ (٥٤) قَالَ ٱجۡعَلۡنِی عَلَىٰ خَزَاۤىِٕنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمࣱ (٥٥)﴾ [يوسف ٥٤-٥٥]

يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلِكِ حِينَ تَحَقَقَ بَرَاءَةَ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَزَاهَةَ عرْضه مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، قَالَ: ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ أَيْ: أَجْعَلُهُ مِنْ خَاصَّتِي وَأَهْلِ مَشُورَتِي ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾ أَيْ: خَاطَبَهُ الْمَلِكُ وَعَرَفَهُ، وَرَأَى فَضْلَهُ وَبَرَاعَتَهُ، وَعَلِمَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْق وخُلُق وَكَمَالٍ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ أَيْ: إِنَّكَ عِنْدَنَا قَدْ بَقِيتَ ذَا مَكَانَةٍ وَأَمَانَةٍ، فَقَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ إِذَا جُهِل أَمْرُهُ، لِلْحَاجَةِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ ﴿حَفِيظٌ﴾ أَيْ: خَازِنٌ أَمِينٌ، ﴿عَلِيمٌ﴾ ذُو عِلْمٍ وبصرَ بِمَا يَتَوَلَّاهُ(١) .قَالَ شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعَتْنِي، عَلِيمٌ بِسِني الجَدْب. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَسَأَلَ الْعَمَلَ لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ لِلنَّاسِ(٢) وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنْ يُجْعَل عَلَى خَزَائِنِ(٣) الْأَرْضِ، وَهِيَ الْأَهْرَامُ الَّتِي(٤) يُجْمَعُ فِيهَا الْغَلَّاتُ، لِمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ السِّنِينَ الَّتِي أَخْبَرَهُمْ بِشَأْنِهَا، لِيَتَصَرَّفَ لَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْوَطِ وَالْأَصْلَحِ وَالْأَرْشَدِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ رَغْبَةً فِيهِ، وتكرِمَةً لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:

(١) في ت: "نتولاه".
(٢) في ت: "مصالح الناس".
(٣) في ت: "خزان"
(٤) في ت: "الذي".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 21 أغسطس 2024

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٦
من سورة يوسف 
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَیَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَاۤ إِنِّیۤ أَرَىٰنِیۤ أَعۡصِرُ خَمۡرࣰاۖ وَقَالَ ٱلۡـَٔاخَرُ إِنِّیۤ أَرَىٰنِیۤ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِی خُبۡزࣰا تَأۡكُلُ ٱلطَّیۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِیلِهِۦۤۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [يوسف ٣٦]

قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَحَدُهُمَا سَاقِيَ الْمَلِكِ، وَالْآخَرُ خَبَّازَهُ.قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمُ الَّذِي عَلَى الشَّرَابِ "نَبَوَا"، وَالْآخَرِ "مجلثَ".قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ سَبَبُ حَبْسِ الْمَلِكِ إِيَّاهُمَا أَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُمَا تَمَالَآ عَلَى سَمِّهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ.وَكَانَ(١) يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدِ اشْتُهِرَ فِي السِّجْنِ بِالْجُودِ(٢) وَالْأَمَانَةِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَمَعْرِفَةِ التَّعْبِيرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أهل السجن وعيادة مَرْضَاهُمْ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ. وَلَمَّا دَخَلَ هَذَانِ(٣) الْفَتَيَانِ إِلَى السِّجْنِ، تَآلَفَا بِهِ وَأَحَبَّاهُ حُبًّا شَدِيدًا، وَقَالَا لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَحْبَبْنَاكَ حُبًّا زَائِدًا. قَالَ(٤) بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا، إِنَّهُ مَا أَحَبَّنِي أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ عَلَيَّ مِنْ مَحَبَّتِهِ ضَرَرٌ، أَحَبَّتْنِي عَمَّتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ الضَّرَرُ بِسَبَبِهَا، وَأَحَبَّنِي أَبِي فَأُوذِيتُ بِسَبَبِهِ، وَأَحَبَّتْنِي امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَكَذَلِكَ، فَقَالَا وَاللَّهِ مَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا رَأَيَا مَنَامًا، فَرَأَى السَّاقِي أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا -يَعْنِي عِنَبًا -وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ عِنَبًا". وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سِنَان، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ شَرِيك، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ قَرَأَهَا: "أَعْصِرُ عِنَبًا".وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ يَعْنِي: عِنَبًا. قَالَ: وَأَهْلُ عَمَّانَ يسمُّون الْعِنَبَ خَمْرًا.وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَأَيْتُ(٥) فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنِّي غَرَسْتُ حَبَلة مِنْ عِنَبٍ، فَنَبَتَتْ. فَخَرَجَ فِيهِ عَنَاقِيدُ، فَعَصَرْتُهُنَّ ثُمَّ سَقَيْتُهُنَّ الْمَلِكَ. قَالَ(٦) تَمْكُثُ فِي السِّجْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتَسْقِيَهُ خَمْرًا.وَقَالَ الْآخَرُ -وَهُوَ الْخَبَّازُ -: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّهُمَا رَأَيَا مَنَامًا وَطَلَبَا تَعْبِيرَهُ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع وَابْنُ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا رَأَى صَاحِبَا يُوسُفَ شَيْئًا، إِنَّمَا كَانَا تَحَالَمَا لِيُجَرِّبَا عَلَيْهِ.

(١) في ت: "فكان".
(٢) في أ: "بالجودة".
(٣) في ت: "هذا".
(٤) في ت، أ: "فقال".
(٥) في ت: "وقال عكرمة: قال له رأيت".
(٦) في ت، أ: "فقال".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 14 أغسطس 2024

من سورة يوسف

 ﴿قَالُوا۟ یَـٰۤأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأۡمَ۬نَّا عَلَىٰ یُوسُفَ وَإِنَّا لَهُۥ لَنَـٰصِحُونَ (١١) أَرۡسِلۡهُ مَعَنَا غَدࣰا یَرۡتَعۡ وَیَلۡعَبۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ (١٢)﴾ [يوسف ١١-١٢]


لَمَّا تُوَاطَئُوا عَلَى أَخْذِهِ وطَرْحه فِي الْبِئْرِ، كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمْ أَخُوهُمُ الْكَبِيرُ رُوبيل، جَاءُوا أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالُوا: ﴿يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ وَهَذِهِ تَوْطِئَةٌ وَسَلَفٌ وَدَعْوَى، وَهُمْ يُرِيدُونَ خِلَافَ ذَلِكَ؛ لِمَا لَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَسَدِ لِحُبِّ أَبِيهِ لَهُ، ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا﴾ أَيِ: ابْعَثْهُ مَعَنَا، ﴿غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ﴾ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْعَى وَيَنْشَطُ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ والُّسدِّي، وَغَيْرُهُمْ.﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ يَقُولُونَ: وَنَحْنُ نَحْفَظُهُ وَنَحُوطُهُ مِنْ أَجْلِكَ.


(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))


من سورة يوسف

 صدقة جارية 

تفسير اية رقم ٦ من 

سورة يوسف 

﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ یَجۡتَبِیكَ رَبُّكَ وَیُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِ وَیُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكَ وَعَلَىٰۤ ءَالِ یَعۡقُوبَ كَمَاۤ أَتَمَّهَا عَلَىٰۤ أَبَوَیۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ وَإِسۡحَـٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾ [يوسف ٦]


يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ لِوَلَدِهِ يُوسُفَ: إِنَّهُ كَمَا اخْتَارَكَ(١) رَبُّكَ، وَأَرَاكَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ سَاجِدَةً لَكَ، ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ أَيْ: يَخْتَارُكَ وَيَصْطَفِيكَ لِنُبُوَّتِهِ، ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا.﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ أَيْ: بِإِرْسَالِكَ وَالْإِيحَاءِ إِلَيْكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ﴾ وَهُوَ الْخَلِيلُ، ﴿وَإِسْحَاقَ﴾ وَلَدِهِ، وَهُوَ الذَّبِيحُ فِي قَوْلٍ، وَلَيْسَ بِالرَّجِيحِ، ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ: [هُوَ](٢) أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.


(١) في ت: "اختار".

(٢) زيادة من ت.


(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))


من سورة يوسف

 صدقة جارية 

تفسير اية رقم ٧_١٠

من سورة يوسف 

﴿۞ لَّقَدۡ كَانَ فِی یُوسُفَ وَإِخۡوَتِهِۦۤ ءَایَـٰتࣱ لِّلسَّاۤىِٕلِینَ (٧) إِذۡ قَالُوا۟ لَیُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰۤ أَبِینَا مِنَّا وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ (٨) ٱقۡتُلُوا۟ یُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضࣰا یَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِیكُمۡ وَتَكُونُوا۟ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمࣰا صَـٰلِحِینَ (٩) قَالَ قَاۤىِٕلࣱ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُوا۟ یُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِی غَیَـٰبَتِ ٱلۡجُبِّ یَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّیَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَـٰعِلِینَ (١٠)﴾ [يوسف ٧-١٠]


يَقُولُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَخَبَرِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ، أَيْ عبرةٌ ومواعظُ لِلسَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ، الْمُسْتَخْبِرِينَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَجِيبٌ، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْتَخْبَرَ عَنْهُ، ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ أَيْ: حَلَفُوا فِيمَا يَظُنُّونَ: وَاللَّهِ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ -يَعْنُونُ بِنْيَامِينَ، وَكَانَ شَقِيقَهُ لِأُمِّهِ - ﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ أَيْ: جَمَاعَةٌ، فَكَيْفَ أَحَبَّ ذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمَاعَةِ؛ ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ يَعْنُونَ فِي تَقْدِيمِهِمَا عَلَيْنَا، وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا أَكْثَرَ مِنَّا.وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَيَحْتَاجُ مُدّعي ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سوَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٣٦] ، وَهَذَا فِيهِ احْتِمَالٌ؛ لِأَنَّ بُطُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُمُ: الْأَسْبَاطُ، كَمَا يُقَالُ لِلْعَرَبِ: قَبَائِلُ، وَلِلْعَجَمِ: شُعُوبٌ؛ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَذَكَرَهُمْ إِجْمَالًا لِأَنَّهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنْ نَسْلِ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَعْيَانِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ يَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يُزَاحِمُكُمْ فِي مَحَبَّةِ أَبِيكُمْ لَكُمْ، أَعْدِمُوهُ مِنْ وَجْهِ أَبِيكُمْ، لِيَخْلُوَ لَكُمْ وَحْدَكُمْ، إِمَّا بِأَنْ تَقْتُلُوهُ، أَوْ تُلْقُوهُ فِي أَرْضٍ مِنَ الْأَرَاضِي -تَسْتَرِيحُوا مِنْهُ، وَتَخْتَلُوا أَنْتُمْ بِأَبِيكُمْ، وَتَكُونُوا مِنْ(١) بَعْدِ إِعْدَامِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ. فَأَضْمَرُوا التَّوْبَةَ قَبْلَ الذَّنْبِ.﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾ قَالَ قَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ أَكْبَرَهُمْ وَاسْمُهُ رُوبِيلُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الَّذِي قَالَ ذَلِكَ يَهُوذَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ شَمْعُونُ ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ أَيْ: لَا تَصِلوا(٢) فِي عَدَاوَتِهِ وَبُغْضِهِ إِلَى قَتْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ(٣) سبيلٌ إِلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُرِيدُ مِنْهُ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهِ وَإِتْمَامِهِ، مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَمِنَ التَّمْكِينِ لَهُ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالْحُكْمِ بِهَا، فَصَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ بِمَقَالَةِ رُوبِيلَ فِيهِ وَإِشَارَتِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَهُوَ أَسْفَلَهُ.قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ بِئْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ أَيْ: الْمَارَّةُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ، فَتَسْتَرِيحُوا بِهَذَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَتْلِهِ.﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ عَازِمِينَ عَلَى مَا تَقُولُونَ.قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: لَقَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى أمر عظيم، من قطيعة الرحم، وعقوق الْوَالِدِ، وَقِلَّةِ الرَّأْفَةِ بِالصَّغِيرِ الضَّرَع الَّذِي لَا ذَنْبَ لَهُ، وَبِالْكَبِيرِ الْفَانِي ذِي الْحَقِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَخَطَرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، مَعَ حَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ(٤) وَحَبِيبِهِ، عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، ورِقَّة عَظْمِهِ، مَعَ مَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ فِيمَنْ أَحَبَّهُ طِفْلًا صَغِيرًا، وَبَيْنَ أَبِيهِ عَلَى ضَعْفِ قُوَّتِهِ وَصِغَرِ سَنِّهِ، وَحَاجَتِهِ إِلَى لُطْفِ وَالِدِهِ وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَقَدِ احْتَمَلُوا أَمْرًا عَظِيمًا.رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْهُ.


(١) في أ: "وتكونوا من بعده، أي من بعد".

(٢) في أ: "لا تغلوا".

(٣) في ت: "له".

(٤) في ت: "أبيه".


(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))